الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الشعراوي: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}.و{تَدْعُونَ} لها معنيان، المعنى الأول يعني أنكم قد تتخذونهم آلهة وتعبدونهم، والمعنى الثاني هو أن يقال: تدعونه أي تطلب منه شيئًا. والمعنيان يجيئان في هذه الآية: {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فادعوهم}.وعنْدَما يسمع الإنسان كلمة {عباد} يفهم أنها من الجنس المتعقل الحي، فكيف تكون الأصنام عبادًا؟ وأقول: نحن هنا نأخذها على شهرة اللفظ، أما إذا أردنا تحقيق اللفظ وتعقيده، فالبناء مأخوذ من التذلل والخضوع، ألم يقل موسى لفرعون:؟ {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22].أي أذللتهم. وفي الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها تكون الأصنام عبادًا أمثالهم في أنهم يُذلون؛ لأن السيل إذا نزل أو هبت الريح نجد هذه الأصنام قد وقعت وتكسرت رقابها، فيهرع المشركون ليأتوا بمن يعيد ترميم هذه الآلهة!! إذن فأنتم أيها المشركون؛ لأنكم مخلوقون بالله قد تملكون قدرة، وقوة تستطيعون بها إن جاء لكم ضر أن تدفعوا الضر عنكم، أما الأصنام فليست لها أدنى قدرة إن جاءها من يحطمها، أو يكسرها، أو يقبلها، فهي أضعف منكم. وبذلك تكون كلمة {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} لونًا من الترقي.وعلى فرض أنهم عباد أمثالكم، فالعبد من الأحياء حينما يأتي شيء يستذله، قد يستطيع أن يدفع عن نفسه بعض الشيء إلا إن كان الشيء قويا فوق طاقته. فالمراد والمقصود أنهم عباد أمثالكم أي مذللون ومسخرون ولا يستطيعون دفع شيء عن أنفسهم. وأنت إذا ما نظرت إلى هذه المسألة وأخذت معنى عباد على معناها الإطلاقي، فأنت تعلم أن العبد هو كل مسخر مذلل من العباد.لكن هناك مذلل ومسخر فيما لا اختيار له فيه، وآخر مذلل ومسخر فيما له فيه اختيار أيضًا، والفرق بين الاثنين أن الكافر فيما له اختيار؛ إما أن يؤمن وإما أن لا يؤمن ويختار الكفر، بل إن الإنسان المؤمن له الاختيار في أن يطيع أو يعصي. ولكن هناك أشياء أخرى تجري على الإنسان لا اختيار له فيها، كأن يمرض ولا يقدر أن يقول: لا لن أمرض، أو قد يأتيه الموت فلا يقدر أن يقول: لن أموت. وقد يهلك ماله أو تحترق داره فلا يستطيع دفع القدر، وكل هذه أمور قهرية يكون الإنسان فيها مذللًا مسخرًا، والكافر والمؤمن في هذه الأمور سواء.والمؤمن يتميز بأنه يتبع منهج الله فيما له فيه اختيار، وهذه فائدة الإيمان، وبذلك يخرج المؤمن عن الاختيار المخلوق لله، إلى مراد الله منه في الحكم، ويستوي بكل شيء مسخر لله، ولذلك نقول للذين يكفرون: كفرتم وتأبيتم بما خلق فيكم من الاختيار عن الإيمان بالله.وقد جعلها الله لكم بقوله: {... فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].وما دام الواحد منكم أيها الكافرون يتأبى ويستكبر على حكم الله، إذن فللواحد منكم أيها الكافرون رياضة على التمرد، فلماذا لا تقول للمرض لن أستسلم لك. ولن يستطيع أحد الكافرين ذلك، لأنه إنما يكفر بما له حق ممنوح من الله في منطقة الاختيار، أما في غير ذلك فالكل عباد مذللون. {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} [الأعراف: 194].وقول الحق تبارك وتعالى: {فادعوهم} أي اطلبوا منهم أن يلبوا لكم أي طلب، وهم لن يستجيبوا لكم؛ لأنهم لا يقدرون أبدًا. وفي هذا القول لون من التحدي {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} لكنهم لن يستجيبوا، فليست لهم قدرة لأن يخرجوا على أمر ربنا ويقولوا سنعطيكم ما تطلبون، لأن طاقتهم وطبيعتهم لا تقدر أن تستجيب. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: قال ابن عادل:قوله: {إنَّ الذينَ}.العامَّةُ على تشديدِ إنَّ والموصولُ اسمها، وعبادٌ خبرها، وقرأ سعيدُ بنُ جبيرٍ بتخفيف {إنْ} ونصب {عباد} و{أمثالكم}، وخرَّجها ابن جني وغيره أنها إنْ النَّافيةُ وهي عاملةُ عمل ما الحجازية وهو مذهب الكسائي وأكثر الكوفيين غير الفراء، وقال به من البصريين: ابن السراج والفارسي وابن جنِّي، واختلف النقل عن سيبويه والمبرد، والصحيحُ أنَّ إعمالها لغةٌ ثاتبة نظمًا ونثرًا؛ وأنشدوا: [المنسرح]ولكن قد استشكلوا هذه القراءة من حيث إنها تنفي كونهم عبادًا أمثالهم، والقراءة الشهيرة تُثْبِتُ ذلك ولا يجوزُ التَّناقض في كلام اللَّهِ تعالى.وقد أجَابُوا عن ذلك بأنَّ هذه القراءة تُفْهِمُ تحقير أمرِ المعبودِ من دون اللَّهِ وعبادة عابِدِه.وذلك أنَّ العابدين أتَمَّ حَالًا وأقدرُ على الضرِّ والنَّفْعِ من آلهتهم فإنَّهَا جمادٌ لا تفعل شيئًا من ذلك، فكيف يَعْبُدُ الكاملُ من هُو دُونَه؟ فهي موافقةٌ للقراءة المتواترة بطريق الأولى.وقد ردَّ أبو جعفرٍ هذه القراءة بثلاثة أوجه:أحدها: أنَّهَا مخالفةٌ لسواد المصحفِ.والثاني: أن سيبويه يختار الرفع في خبر إنْ المخففة فيقول: إنْ زيدٌ منطلقٌ؛ لأنَّ عمل ما ضعيف وإنْ بمعناها، فهي أضعف منها.الثالث: أنَّ الكسائي لا يرى أنَّهَا تكون بمعنى ما إلاَّ أن يكون بعدها إيجاب، وما ردَّ به النَّحَّاس ليس بشيءٍ؛ لأنَّهَا مخالفةٌ يسيرة.قال أبُو حيان: يجوزُ أن يكون كتب المنصوب على لغة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف، فلا تكون مخالفةٍ للسَّواد.وأمَّا سيبويه فاختلف النَّاسُ في الفهم عنه في ذلك.وأمَّا الكسائيُّ فهذا القيد غير معروف له.وخرَّج أبو حيَّان القراءة على أنَّها إنْ المخففة.قال: وإنْ المخففة تعمل في القراءة المتواترة كقراءة {وَإِنَّ كُلًا} [هود: 111] ثُمَّ إنَّها قد ثبت لها نصبُ الجُزأين؛ وأنشد: [الطويل] قال: وهي لغة ثابتة ثم قال: فإن تأوَّلثوا ما ورد من ذلك؛ نحو: [الرجز] أي: تُرَى رواجعًا، فكذلك هذه يكون تأويلها: إن الذين تدعون من دون الله خلقناهم عبادًا أمثالكم.قال شهابُ الدِّين: فيكون هذا التَّخريج مبنيًا على مذهبين.أحدهما: إعمالُ المخففَّة.وقد نصَّ جماعة من النحويين على أنَّه أقل من الإهمال، وعبارة بعضهم أنَّهُ قليل، ولا أرتضيه قليلًا لوروده في المتواتر.الثاني: أنَّ إنَّ وأخواتها تنصب الجزأين، وهو مذهبٌ مرجوح، وقد تحصَّل في تخريج هذه القراءة ثلاثةُ أوجه: كون إنْ نافية عاملة، والمخففة الناصبة للجزءين، أو النصب بفعل مقدر هو خبر لها في المعنى.وقرأ بعضهم إنْ مخففة، عبادًا نصبًا أمثالكم رفعًا، وتخريجها على أن تكونَ المخففة وقد أهملت والذين مبتدأ، و{تَدْعُونَ} صلتها والعائدُ محذوف، وعبادًا حال من ذلك العائد المحذوفِ، أمثالكُم خبره، والتقدير: إنَّ الذين تدعونهم حال كونهم عبادًا أمثالكم في كونهم مخلوقين مملوكين، فكيف يُعْبَدُون؟ويضعفُ أن يكون الموصول اسمًا منصوب المحل؛ لأن إعمال المخففة كما تقدَّم قليلٌ.وحكى أبُو البقاءِ أيضًا قراءةُ رابعةً وهي بتشديدِ إنَّ ونصب عباد ورفع أمثالكم وتخريجها على ما تقدم قبلها. اهـ. .من لطائف وفوائد المفسرين: من لطائف القشيري في الآية:قال عليه الرحمة:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)}.إذا قُرِنَتْ الضرورةُ بالضرورة تضاعف البلاء، وترادف العناء؛ فالمخلوق إذا استعان بمخلوقٍ مثلِه ازداد بُعْدُ مرادِه عن النُّجح. وكيف تشكو لمن هو ذو شكاية؟! هيهات! إن ذلك خطأ من الظن، وباطل من الحسبان. اهـ..تفسير الآية رقم (195): قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما أثبت عجزهم وأنهم أمثالهم، دل عليه وعلى أنهم دونهم بأسلوب إنكار وتعجيب مفصلًا لبعض ما نفاه عنهم- فقال مقدمًا الأرجل لأن أول ما يخشى من الشيء انتقاله: {ألهم أرجل} ولما كانت لهم جوارح مصنوعة، بين المراد بقوله: {يمشون بها}.ولما كان المخشيّ بعد الانتقال مدّ اليد، قال: {أم لهم أيد} أي موصوفة بأنهم {يبطشون بها} أي نوعًا من البطش؛ ولما كان المخوف بعد البطش باليد البصر خوفًا من الدلالة قال: {أم لهم أعين} أي منعوتة بأنهم {يبصرون بها} أي ضربًا من الإبصار؛ ولما كان الإنسان ربما خاف مما يقصد ضره فتغيب عنه فلا يصل إليه بعد ذلك إلا بالسمع قال خاتمًا: {أم لهم آذان} أي مقول فيها أنهم {يسمعون بها} أي شيئًا من السمع.ولما سواها بهم ونفى عنهم ما تقدم، لزم نقصانها عنهم وأنه في الحقيقة مسلوب عنهم لأنهم ليس لهم من ذواتهم إلا العدم، والقدرة فيما يقدرون عليه إنما هي بيد الصانع لهم أشركهم معها، وقال دالًا على ذلك مستأنفًا: {قل} أي لهولاءالمشركين {ادعوا شركاءكم} أي هذه التي تقدمت ومهما شئتم غيرها، واستعينوا بها في عداوتي.ولما كان هذا تحديًا عظيمًا يحق لفاعله التمدح به، نبه عليه بآداة التراخي فقال: {ثم كيدون} أي جميعًا أنتم وهم وأنتم أكثر من حصى البطحاء ورمل الفضاء وأنا وحدي، ولما كان المعنى: وعجلوا، عطف بفاء السبب قوله: {فلا تنظرون} أي تمهلون لحظة فما فوقها لئلا تعتلوا في الإنظار بعلة. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الفخر: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}.اعلم أن هذا نوع آخر من الدليل في بيان أنه يقبح من الإنسان العاقل أن يشتغل بعبادة هذه الأصنام.وتقريره أنه تعالى ذكر في هذه الآية أعضاء أربعة، وهي الأرجل والأيدي والأعين والآذان، ولا شك أن هذه الأعضاء إذا حصل في كل واحدة منها ما يليق بها من القوى المحركة والمدركة تكون أفضل منها إذا كانت خالية عن هذه القوى، فالرجل القادرة على المشي واليد القادرة على البطش أفضل من اليد والرجل الخاليتين عن قوة الحركة والحياة، والعين الباصرة والأذن السامعة أفضل من العين والأذن الخاليتين عن القوة الباصرة والسامعة، وعن قوة الحياة، وإذا ثبت هذا ظهر أن الإنسان أفضل بكثير من هذه الأصنام، بل لا نسبة لفضيلة الإنسان إلى فضل هذه الأصنام ألبتة، وإذا كان كذلك فكيف يليق بالأفضل الأكمل الأشرف أن يشتغل بعبادة الأخس الأدون الذي لا يحس منه فائدة ألبتة، لا في جلب المنفعة ولا في دفع المضرة.
|